القصة القصيرة ( عروس المشرحة )
بقلم الكاتبة / ماجدة مرسي
في إحدى ليالي الشتاء الباردة وبينما كان "أمهر"
ساحر القرية بل شيطانها يقطع الغرفة ذهاباً وإياباً، يتوقف قليلا عند موقده الفخاري،
يمد بصره داخل الموقد المشتعل بالنار، وبصوت كفحيح الأفعى يتلو أحد طلاسمه السحرية
مستغرق في تلاوتها كأنها ترانيم مقدسة يتلوها على شيطانه، وقد بدأ التأثر واضحاً على
وجهه الملعون وعيناه الحمراوان الجاحظتان.
قطع استغراقه صوت طرقات قوية على باب منزله وما إن فتح الباب
حتى تلقى لكمة قوية على وجهه، لم يكتفي زائره المعلم( سلطان الغول) بذلك بل أمسكه من
ملابسه بقبضة يده الكبيرة والغليظة ليرفعه أمام وجهه مباشرة ويقول: من تظن نفسك كي
تخدع الغول؟ بصوت مرتعش أجاب الساحر: أنا لم أخدعك، ماذا حدث؟
بحنق أجاب الغول: غرق رجلان اليوم من رجالي داخل الحفرة الملعونة،
وبعد ساعتين جفت المياه فجأة كما ظهرت فجأة!
وبقوة ألقى الغول الساحر على الأرض كأنه يعاقب الأرض لحملها
الساحر على ظهرها، ثم بخطوات ثابتة اقترب الغول من "أمهر" الذي بدى ضئيلاً
جداً كأرنب مذعور، استوى الغول بقامته الضخمة فوق رأس الساحر كوحش يتهيأ لافتراس غنيمته،
بارتباك قال أمهر: أعمل معك منذ زمن وتعلم أن عملنا به الكثير من المهالك وأمور لا
أملك التحكم بها، لذلك وجب عليك يا سلطاني تنفيذ الطلب الأخير وإلا...
قاطعه الغول بحدة: أعطيتهم كل ما طلبوا أما ذلك الهراء الأخير
مستحيل، وأنت ساحر دجال تملك ألاعيب كثيرة، جد حلاً لهذه المعضلة؟
بأسف رد الساحر: لا أملك لها حلاً وأنت تعلم ذلك أكثر مني.
رمقه الغول بنظرة حاده أضافت على نفس "أمهر" مزيداً
من الرعب لم تضفه الكلمات ثم انصرف عائداً الى منزله، الأرض تهتز على وقع أقدامه من
شدة الغضب.
يجلس الغول في قصره الفاخر محاطاً برجاله الأشداء المسلحين
ورغم شدتهم لا يقوى أحد منهم على التنفس إلا بأمر منه، كلهم يخشونه ويخافون عذابه،
كيف لا يفعلون؟ وهو رجل قاسي يقتل، يسرق ،يشرد ، يحمل قلب مجرم بامتياز، انعكس سواد
قلبه على وجهه فزاده سواداً وغلظة، رسم الشر معالم وجهه، وتركت معاركه في الظلام ندبة
واضحة تحت عينه اليسرى.
على استحياء ووجل دعاه "عوني" أحد أعوانه المخلصين
لحضور حفل زفافه، بابتسامة خبيثة لبى الغول الدعوة وحرك "عوني" رأسه ويديه
بكل إشارات الشكر والامتنان، وكالبرق عاد إلى منزله يتابع تجهيزات العرس بينما مال
الغول على أحد رجاله هامساً في أذنه بكلام لم يسمعه سوى هذا الرجل.
ثم هز الرجل رأسه بالموافقة قال بصوت غليظ أجش: نعم فهمت،
كل شيء سيكون جاهزاً كما أمرت.
جاء يوم الزفاف الذي كان كبيراً وحضره الكثير من أهل القرية،
وكانت البهجة بكل صورها ومظاهرها تعم المكان
ولكن هيهات لهذه الفرحة أن تكتمل، بدون مقدمات نشب شجار حاد
ومفتعل بين بعض رجال الغول حول العرس إلى ساحة قتال، ترك "عوني" عروسه الجميلة
على المنصة الخاصة بالعروسين ودخل وسط أمواج الناس المتلاطمة في محاولة يائسة لتهدئة
الموقف واستيعابه، ولكن هيهات أن يفلح .
ولم يلاحظ أحد اقتراب بعض النسوة من العروس بدعوى مساعدتها
وإبعادها عن ساحة العراك تلك، وفي لحظة غفلة من الجميع أخرجوها من العرس ومن القرية
كلها إلى أطراف القرية المجاورة بالقرب من المقابر، وبين الجبال التي اتشحت بسواد الليل،
وقفت الجبال متراصة بجوار بعضها بأطوال مختلفة كأسنان غير منتظمة تنظر بعيون شهود بكم
على ما يحدث.
***
وصلت السيارة ونزلت
منها العروس المسكينة وقد التهم الرعب ملامحها البريئة، مكبلة الأيدي والأرجل، زائغة
البصر تضيع صرخاتها بين الجبال والمقابر، تتساءل هل من مغيث؟
أرغمت على السكوت والجلوس بين يدي "أمهر" الساحر
ليلقي عليها التعويذة المنشودة، سرعان ما سرى مفعول التعويذة على جسد الفتاة فغابت
عن الوعي تماماً ثم تهاوت على الأرض كحجر.
ولإستكمال الطقوس
السحرية ألقي بجسد العروس المسكينة وسط دائرة رسمها وأحاطها بالشموع المشتعلة ورسوم
لكواكب ونجوم سسداسي وجلود أفاعي محنَطة ملقاة هنا وهناك لتبدأ بعدها مراسم انتزاع
قلبها الطاهر من بين أضلعها والاحتفاظ به وتركها جثة ملقاة بجوار المقابر.
***
يستعد راضي لاستلام مناوبته الليلية، يفتح خزانة الملابس
الخاصة بملابس العاملين ويرتدي زيه الأخضر المشابه لزي الاطباء الجرَاحين، ينظر إلى
نفسه في المرآة وقد رسم الإحباط ملامح وجهه الوديعة، ولكن ما عساه يفعل وقد أوصدت كل
أبواب الوظائف في وجهه ولم يجد إلا وظيفة (فني مشرحة).
عمله يقتصر على تسجيل بيانات الجثة وسبب الوفاة ومدة بقائها
في المشرحة .
سمع راضي صوت سيارة الإسعاف فهرول مسرعاً نحو البوابة، هاله
ما وقعت عليه عيناه!
جثة عروس احتفظت بجمالها رغم شحوب الموت الذي يلف وجهها،
الدم الأحمر يكاد يبتلع بياض فستانها .
تأثر راضي كثيراً لرؤيتها ولم تفارق صورتها خياله، بل ظلت
الأسئلة تدور بخاطره،، من وكيف ولماذا قتلت عروس بهذه الملامح البريئة وفي ليلة زفافها؟!
قاده الفضول الى الخالة صالحة أقدم المُغسِلات بالمشرحة والمختصة
بغسل الأموات من النساء، ألقى عليها التحية وسألها: هل سمعت شيئًا عن سبب وفاة العروس؟
أجابته بحزن أنهم لم ينتهوا منها بعد، وطلبت مساعدته في تحريك
طاولة غسل الأموات .
ارتعدت فرائصه وابتلع ريقه بصعوبة وقال بخجل: خالة صالحة،
لا أستطيع دخول غرفة غسل الأموات، سأموت من الرعب.
بوقار قالت: الأموات يا ولدي أفضوا إلى ما قدموا، لكن الرعب الحقيقي يأتي من الأحياء. ثم فتحت باب
الغرفة على مصراعيه وأشارت إلى أركان الغرفة قائلة: في هذا المحراب يا راضي تظهر حقيقة
الدنيا عارية من أي اعتبارات مادية أو اجتماعية، أجساد تفنى وتبلى رغم قوتها وأخرى
تنعًمت في جنة الدنيا فلما انسلخت منها الروح تركتها جيفة بالية، مجرد وعاء كان وفقد
قيمته في الروح القابعة بداخله.
ثم مشت بضع خطوات داخل الغرفة وأردفت قائلة: هنا لا يفوح
عبق العطور الباريسية الثمينة وإنما عبق العظة
والعبرة ينتشر في كل ركن، يملأ عقلك وقلبك ويغذي بصيرتك فترى الدنيا على حقيقتها، ومادمت
لن تساعدني يا راض، فاذهب واستدعي أحد العمال
لمساعدتي .
انطلق راضي مسرعًا، في طريقه لمح طيفاً يتحرك بسرعة من أمامه،
ظن أنه يتوهم، شعر ببرودة تجري في دمائه وقشعريرة حاول كبحها ولكن جسده اهتز على إثرها،
ظل واقفاً مكانه ينظر يميناً ويساراً ...
****
ممرات المشرحة تكون في هذا الوقت من الليل خالية من المارة،
أغمض عينيه وملأ رئتيه بهواء طازج وعندما فتحهما لم يصدق ما رأى.
العروس تقف أمامه مباشرة وكأنها عادت للحياة مرة أخرى، جحظت
عيناه وانحبست أنفاسه، العروس تتقدم تجاهه وراضي يعود بظهره إلى الوراء، سقط على الأرض
ثم بقدمين ثقيلتين حاول النهوض والركض ولكن أنفاسه تتقطع وقدماه لا تطيعانه، استجمع
راضي شجاعته ووقف في وجه العروس بقوة يعانقها الخوف والقلق ثم تكلم: من أنت؟
أجابت: أنا روح، مجرد روح تسأل بأي ذنب قتلت؟ بأي ذنب ينتزعون
قلبي؟
_وما شأني أنا بذلك ؟ أتظنين أني قاتلك ؟
أجابت: أريد الانتقام من قتلتي وعليك مساعدتي، آخر كلمة سمعتها
قبل أن أغسل يدي من قاذورات دنياكم كانت( الغول ) اذهب وابحث عنه.
وقبل أن ينطق بكلمة كانت العروس قد اختفت.
أصوات تتعالى عند بوابة المشرحة الرئيسية، توجه ناحية الصوت
وسأل أحد زملائه في العمل: ما هذه الضوضاء؟
أجابه بعدم اكتراث: إنه زوج العروس جاء لاستلام الجثة لدفنها.
طلب من زميله استلام مكانه في العمل وهرول مسرعاً خلف زوج
العروس القتيلة الذي توجه بدوره إلى المقابر لدفن زوجته.
وبعد انتهاء مراسم الدفن وقف الزوج أمام ضريح زوجته وحيداً
بعد انصراف من كان حوله ووقف راضي خلف الزوج مباشرة، شعر "عوني" زوج العروس
القتيلة بحركة ما خلف ظهره، كاد أن يلتفت ورائه ولكن راضي باغته قائلاً: إياك أن تلتفت
ورائك، رأيت شبح زوجتك، روحها متعبة وتريد الانتقام من قاتلها، آخر كلمة سمعتها كانت
الغول.
نكس "عوني" رأسه ولم ينطق بكلمة ثم مشى خطوات خارج
المقابر، تبعه راضي سائلاً: إلى أين تذهب؟
رد بحنق وغضب مكتوم: سأنتقم لها.
سأل راضي: لماذا قتلت بوحشية؟
بأسى بالغ أجاب "عوني": لأن الرصد حارس المقبرة
طلب ذلك، مقبرة فرعونية عمرها ثلاثة آلاف عام لم تفتح من قبل، وكنوزها لا تقدر بثمن،
حاول الغول فتحها من قبل وغرق فيها عدد من رجاله، ثم نشب الخلاف بينه وبين "أمهر"
الساحر الذي حاول إقناعه بضرورة تلبية طلب الرصد وإلا فلن تفتح المقبرة، ظننته يطلب
جثة طفل أو طفلة كما جرت العادة، ولم يتبادر إلى ذهني أن يطلب منه قلب عروس طاهرة كعروسي.
حاول منع دموعه من التساقط لكن دموعه خانته وانهمرت منه قطرات
الدمع حبلى بالأسى والندم، يعلم عوني الآن أن الجزاء من جنس العمل، وأن الله يجازيه
على معاونته الغول في قتل الأطفال وسرقة القبور وغيرها، كفكف دموعه وانطلق عازماً على
الانتقام. أفاق راضي من دهشته سريعًا مدفوعاً بالفضول، لحق بعوني دون أن يشعر عوني
به، أخيراً وصل عوني إلى المقبرة الفرعونية بينما اختبئ راضي في مكان يكشف المشهد برمته
ولا يكشف وجوده، مرت الدقائق ثقيلة على عوني وهو ينتظر انتهاء الساحر من تلاوة طلاسمه.
علا صوت الغول غاضباً: أتريد قتلي أيها البغيض، لماذا يطلب
الرصد نزولي مع القلب الى المقبرة؟.. فليهبط رجالي،، كل رجالي وأبقى أنا.
ظل "عوني" يراقب محاولات الساحر إقناع الغول بالنزول
بصحبة رجاله ومعهم القلب إلى المقبرة الفرعونية التي كلفت الغول الكثير حتى الآن، وافق
الغول على نزول المقبرة بينما بقي "أمهر" الساحر في الأعلى يوجه تحركاتهم
بالأسفل، سار الغول ورجاله بضع دقائق معدودة حتى وصلوا إلى بوابة المقبرة، وضع الغول
القلب أمام بوابة المقبرة بالكيفية التي أخبره الساحر بها ثم اهتزت الأرض للحظات فتحت
بعدها البوابة على كنوز وتماثيل ذهبية كانت مدفونة تحت الأرض، فوق الأرض كان يقف
"عوني" بسلاحه مصوباً إلى رأس الساحر، شعر "أمهر" بالمعدن البارد
على رقبته، صاح متسائلاً: من أنت؟ من تكون؟ أبعد سلاحك عني واتركني وإلا أحرقتك الآن
بناري.
بغضب مكتوم قال "عوني": ألاعيب السحرة لا تجدي
نفعاً معي، هيا أغرق المقبرة الآن.
تحت الأرض الغول يعد غنائمه، تفترس عيناه كل ما تقع عليه
قبل أن تلتهمه يداه، وفي غمرة فرحه هذا تنفجر المياه من كل مكان داخل المقبرة الفرعونية،
الماء يملأ المكان بسرعه كبيرة، هرج ومرج،،، صراخ رجال الغول يملأ المقبرة لكن صرخاتهم
ضاعت، ابتلعها الظلام الذي ابتلع صرخات العروس من قبل، يسقط الغول على وجهه يلطخه الوحل
الذي ملأ المقبرة، يمسح الطين عن وجهه فتقع عينه على قلب الفتاة الملقى على الأرض وتذكر
ما فعلوه بها دون أي رحمة أو شفقة، لكن مياه المقبرة أشفقت على هذا القلب المسكين فلم
تصبه قطرة ماء واحدة، بل توهم الغول أنه يرى القلب ينبض وتتسارع نبضاته كأنه يرقص فرحاً،
ينظر إلى الغول بعين مظلوم يرى عدل الله يسري على قاتله فوق الأرض، يستمتع عوني بمنظر
المياه تتدفق خارج الحفرة المؤدية إلى المقبرة الفرعونية، تكلم "أمهر" الساحر
إلى "عوني" : هل استرحت الآن؟ لن يخرج منها؟ غرق الغول ورجاله أ.....
وقبل أن يكمل الساحر كلمته أمطره "عوني" بوابل
من الرصاص فأرداه قتيلاً.
من مكان غير بعيد كان راضي يراقب مشهداً يتكرر من جديد بين
الجبال التي وقفت للمرة الثانية بعيون شهود صم بكم، تشهد هذه المرة على عدل الله يسري على سلطان الغول الظالم وساحره
وأعوانه.
****************************
إرسال تعليق